اسمها: ماری إلیاس زیادة ، واختارت لنفسها اسم می فیما بعد.
توفیت فی القاهرة فی 17 /10/ 1941 م.
نص مختار
الیقظة
فلیحی الاستقلال التام!
فلتحی الحریة!
فلتعش مصر حرة مستقلة!
فلیحی الوطن!
انتبهنا یومًا على وقع هذه الأهازیج غیر المألوفة التی سرعان ما اهتدت إلى
مصبّها فی القلوب, کالماء یفیض فیتدفق على منحدر هُیئ له منذ أجل مدید.
الأفواج, أفواج المتظاهرین, تتقاطر من کل صوب. والأعلام التی طال علیها
العهدُ فی الحقائب تخفق فوق الرؤوس خفوق الألویة المنتصرة. وهتاف المئات
والألوف ینتظم متجمعًا فی نبرة واحدة وقیاس واحد, کأنه من صوتٍ واحد ینطلق.
والأصداء الشائعة یصدمها هنا وهناک ترجیعُ المواکب الجائبة أنحاء المدینة
فی هرج وتهلیل. والجوّ یدوی بارتطام الأصوات, وقرع الطبول, وعزف الآلات,
وزغردة النساء بین الهتاف والتصفیق.
وتمشت روحُ النشوة إلى الضیف والنزیل فأذابت ما بین الأجناس والشعوب
والمذاهب من جلید, وألغت حاسة التفرق وسوءِ التفاهم ضامَّة النفوس کما فی
اعتناق من التعاطف وحسن الوئام.
لمن یهتف الأجانب? وأی الألویة ینشرون? وعلام تنثر أیادیهم الریاحین وفرائد العطور?
أتراهم یحتفون بعید الوطنیة الشاملة لظهور طلائع الوطنیة عند شعب یستفیق
فتحییه حتى جنودُ الإنجلیز وضباطهم بالإشارة والتلویح, ویُحییه الجمیع
بالأصوات والألوان والأزهار?
نعم. فی ذلک الیوم من أواسط شهر مارس سنة 1919 وقد عبق الهواءُ ببشائر
الربیع, ونوَّرت البراعم الزهیة على الغصون, وسَرت فی الأجساد نفحة التجدید
کرسول من حیاة الأرواح, فی ذلک الیوم الغنی بتنبهِ الأرض بعد هجود الشتاءِ
استیقظت أمة الوادی الجاثم بین البحر والصحراءِ.
استیقظت الأمة وهتفتْ. فإذا فی صوتها غضبة الأسود, ومفاداة الأبطال, وعزم الرجال, ومرح الأطفال, وحنو النساء, وصدق الشهام.
***
وتصرَّمت أیام الفرح والهناء بعد أیام الاحتجاج والمطالبة, فسارت الجماهیر وراء نعوش الموتى.
سارت کاسفة لدى زوال صور الحیاة, متهیبة حیال جلال الموت. لا إن العاطفة
المستجدَّة ظلت تجیش وتطمی حینًا بعد حین. وبصوت المفجوع الذی تزکى منه
التضحیةُ الحمیة, تهتف الجماهیر وراء الإعلام المنکسة:
فلیحى الوطن!
فلتحى مصر!
فلیحى ذکر شهداء الحریة!
یا للرعشة العجیبة تعرو النفس لنداء الحماسة والاستبسال! إن القلب عنده
جازعٌ والطرف دامع, أمام مشاهد الفوز ووراء نعوش الضحایا على السواء.
وکأنی خلال الألفاظ المتکررة فی الفضاء المجوف, سمعتُ مصر الفتاة تقول:
لقد کنتَ, أیها القطر, مسرحًا خالیًا منذ أجل طویل,
مسرحًا زیناته هذه السماءُ الزرقاء وهذه الصحراءُ العفراء وهذا اللیل
الناعم السحیق المغری إلى تلمس الأسرار, وهذه الشمس المشرقة أبدًا کمجد لا
ینقضی.
- کلّک, یا هذه الأجواء والمروج والبقایا والأمواه, إنما کنتِ مسرحًا خالیًا ینتظر.
لقد مللتِ شلال الذراری المتلاحقة فی ربوعک صامتة خانعة تجهل اسم الأمل والقنوط.
وانتظرتِ طویلاً طویلاً, انتظرت صوتًا یلیق بعلواء تاریخکِ العظیم.
وها قد آن الأوان فهببتُ فاسمعی!
اسمعی صوتی یخاطب الرعاة بین النخیل, والکهان فی الهیاکل, والفراعنة والبطالمة فی البلاطات والقصور.
یخاطب الغزاة والفاتحین من عتاة العهد القدیم والعهد الجدید,
قائلاً إن کل ما حلّ بی من نکبات وعلل أخرسنی حیناً ولکنه لم ینل من حیویتی!
لقد استیقظتُ, أیتها الأمم, استیقظ الشعبُ الصریع المستعبد!
استیقظ وأرسل کلمته الأولى:
کلمةً أسنى من الربیع, وأبقى من الارض, ترنّ فی قلبی فأزید وثوقًا بما أرید وأبتغی.
کلمة هی تتمة للماضی, وعهد للمستقبل. کلمة هی المنبه, والغایة, والوسیلة.
کلمة عمیقة رحیبة کالحیاة: الحریة!
- عرفت أوروبا العرب بفتوحاتهم الواسعة. ولم تکن لتصدق فی بادئ الأمر أن
سکان البادیة یحسنون شیئًا غیر النهب والسلب والتخریب. على أنها ألفَت مع
الزمن وجودهم فی الأندلس. ولما أن رأت أسبانیا مستمتعة بعیشٍ رغید فی أمان
وسلام, أرغم أهلها على الإقرار بأن العرب بارعون فی فنون السلم کما أنهم
متفوقون فی فنون الحرب. وما تأسست جامعة قرطبة العظیمة وطارت شهرتها إلى ما
وراء جبال البرنات, حتى توارد علماء الفرنجة یطلبون العلم على علماء
المسلمین.
- ومعلوم أن أوروبا مدینة للعرب بکتب جمة نقلها الیهود من العربیة إلى
العبریة ثم ترجمت إلى اللاتینیة ومنها إلى اللغات الأوروبیة الحدیثة. کما
أن فلسفة أرسطو لم تصل إلى علماء القرون الوسطی إِلاّ عن طریق العرب وبعد
تراجم أربع: من الیونانیة إِلی السریانیة, فالعربیة, فالعبرانیة,
فاللاتینیة.
وقد نشر الأستاذ سلامة موسى فی جریدة (البلاغ) المصریة مقالاً عن (العلوم
والحضارة, ونصیب العرب فیها) نقلاً عن مجلة (کونکست) الإنجلیزیة, جاءَ فیه:
(إن العلم الحقیقی دخل أوروبا عن طریق العرب لا عن طریق الإغریق, فقد کان
الرومان أمة حربیة وکان الإغریق أمة ذهنیة; أما العرب فکانوا أمة علمیة.
(فإنهم غزوا ممالک الشرق مثل الهند وفارس وبابل, وتعلموا منها کلَّ ما
استطاعت هذه البلاد أن تقدمه لهم. ولم یقتصر علمهم على الصنائع الیدویة مثل
النسج والدباغة والصباغة التی اشتهر بها الشرق. ولکنهم تعلموا أیضًا جمیع
ما یمکن تعلمه من الهندسة والطب والمیکانیکیات.
(وقد أحرق البطریرک کیرلس مکتبة الإسکندریة فی القرن الخامس, فهجر آلاف من
العلماء تلک المدینة إلى فارس واستوطنوها. فلما ظهر العرب عادوا فجمعوا تلک
المعارف المشتتة, بل أضافوا إِلیها).
(ثم انتشروا فی الغرب, وجازوا البحر إلى أسبانیا حیث لا یزال شاهداً على
عبقریتهم مسجدا قرطبة والحمراء. وقد کان سکان مدینة قرطبة یزیدون عن
الملیون فی القرن الثالث عشر. وکانت شوارعها مبلطة ومضاءَة. وکان فیها ما
لا یحصى من الحمّامات. وکان فیها نحو مائة مستشفى عمومی. ولعل القارئ یدرک
قیمة ذلک إذا عرف أن شوارع باریس لم یوضع علیها البلاط إِلا فی ختام القرن
الخامس عشر ولم یکن فی لندن فی نصف القرن السادس عشر مصباح واحد فی
شوارعها. أما الحمامات والمستشفیات فلم تعرفهما هاتان المدینتان إِلا بعد
قرون.
(فنحن مدینون للعرب باستکشافاتهم العلمیة أکثر مما نحن مدینون لهم بثقافتهم
أو فنونهم. فهم روَّاد الزراعة العلمیة والتربیة العلمیة للدواجن. وقد
زادوا معلوماتنا عن الکیمیاء ونوامیس البصر, وعرفوا حمض الکبریت وحمض
النیترات. وهم الذین علمونا الحساب والجبر وأضافوا الصفر إلى الأعداد
الهندیة التسعة. وکان الناس قبلاً یعتمدون على الهندسة فی تقدیراتهم,
فاخترعوا الحساب الأعشاری. وکان علماء العرب یعتمدون على المشاهدة فی
أبحاثهم بخلاف الإغریق فإِنهم کانوا یعتمدون على الفلسفة. ولکن العلم لا
یرقى إلاّ بالمشاهدة والتجارب. وقد استعمل العرب المغناطیس کما أنهم
استخدموا البوصلة فی الملاحة) اهـ.
کذلک أدَّى العرب إِلی الإنسانیة ما على الأمم الکبیرة من واجب النفع
والإفادة. انتشرت لغتهم وحضارتهم أیما انتشار فکانوا صلة أمینة, صلة خیر
وضیاءٍ بین العصور الخالیة والقرون الحدیثة. ولما هبط الصلیبیون الشرق
عادوا إِلی بلادهم یحملون بعض أنظمة العرب التی اطلعوا علیها فی رحلتهم.
فاقتبسلها الأوروبیون وقدروها قدرها. وعلى ذلک الأساس العربی المتین أقامت
أوروبا صرح مدنیتها الحدیثة
من کتاب (بین الجزر والمد), 1924
رد مع الاستدلال